Thursday 11 January 2018


الشاب الوسيم في حزب العمال الشيوعي
دخل الشاب الطويل الوسيم القاعة الكبرى بالمقر الرئيسي لحزب التجمع بالقاهرة، مشيته بطيئة لكنها واثقة، يستند قليلاً على شخص آخر، يبدو عليه الإرهاق والمرض. وقف كل من في القاعة وانطلق التصفيق المتواصل، وتولى من كانوا على المنصة الترحيب الحار به.
كان مؤتمراً لدعم ومساندة المعتقلين، كان رفيقنا الشاب في حزب العمال الشيوعي قد تعرض لتعذيب وحشي، لم يستطع احتماله فقرر الانتحار. كسر زجاجة وطعن نفسه بقطعة حادة منها، فأدخلوه إلى المستشفى وعندما تماثل للشفاء اخرجوه.
كان ذلك تقريباً في منتصف ثمانينات القرن الماضي، شاب ذو ملامح طفولية أصبح مثلنا الأعلى، كان صارماً وقوياً ومؤمناً بالماركسية والحلم الشيوعي. هكذا يجب أن نكون، نموت ببساطة في سبيل إيماننا. سمعت عن تضحيات عظيمة لقيادات في حزب العمال الشيوعي، وما تعرضوا له من سجن وسحل وتشريد. ما زلت اذكر الحكايات المروية لنا عن عذابات الأب المؤسس للحزب في السجون. كما قرأت وعرفت تضحيات لا أول لها ولا آخر ليساريين ويساريات. كيف تم قتل شهدي عطية الشافعي بوحشية في سجون عبد الناصر، ازاي اتخربت بيوت وتم حرمان اطفال من امهاتهم وابائهم .
كتبت مسرحية اسمها "مرنضاش" في أوائل تسعينات القرن الماضي، تأثرت في بناء شخصية بطلها بشخصية المحامي اليساري المعروف سيد فتحي رحمه الله، رغم أنه لم يكن عضواً في حزب العمال، لكنه كان عنواناً مبهرا لشيوعي مخلص من جيلي. لم اكن أعرفه وقتها ولكن دخوله وخروجه المتكرر من السجون وتضحياته الهائلة جعلته بطل مسرحيتي الوحيدة. كنت محظوظا فيما بعد بصداقة سيد فتحي، وكنت أقول له دائماً ضاحكاً "ضميرك الإجتماعي ما بينامش يا سيد"، كنت معجبا بإصراره علي النضال اليساري إلى آخر يوم في عمره، رغم أنني كنت قد خرجت من هذه الأيديولوجيا.
كانت التضحية والسجون في أوساط حزب العمال تصنع هالة أسطورية حول أصحابها وحول الحزب وحول الشيوعية. ربما هذا كان سبباً رئيسياً لأن نتلقى كتابات الأب المؤسس وباقي قادة الحزب وكأنها أحاديث نبوية، أما الكتب السماوية فكانت تأتينا من ماركس وانجلز ولينين. فما زلت أذكر كيف كنا نتبادل الإنبهار وليس النقاش للتشخيص "العبقري" للأب المؤسس لتجربة جمال عبد الناصر (الناصرية)، فهي في رأيه لا علاقة لها بالاشتراكية، فلم تكن سوى رأسمالية دولة ونتجت عنها ما اسماه على ما اذكر "البرجوازية البيروقراطية”.
كانت هذه التضحيات الأسطورية لهؤلاء النبلاء، نارنا المقدسة نحن الشباب وقتها، كنا نحلم بأن نكون مثلهم حتى لو قتلونا في السجون أو خارجها، كنا في الحقيقة متوحدين بهم، ونشعر دائما بتأنيب الضمير لأننا مقصرين في أن نكون نسخة منهم، نشبه ولو قليلاً هؤلاء العظام، نفعل أي شيء من أجل تحقيق "جنة الإشتراكية" خلاصنا وخلاص لكل البشر.
الحقيقة انني احتجت لسنوات وسنوات من عمري حتى اكتشف أن وجود نبلاء لا يعني ابداً أن الطريق نبيل ولا يعني ابداً أن الأهداف نبيلة. إسلاميون مخلصون لأيديولوجيتهم يضحون بحياتهم ويدخلون السجون وبعضهم مات من التعذيب، وبعضهم حمل السلاح وقتل وقتلوه، وكل هذا من أجل حلم بناء دولة دينية ضد الإنسانية (جنة الله). قوميون بتنويعاتهم كانوا مطاردين وتم سجنهم وتعذيبهم وتم قتل بعضهم، وعندما استولوا على السلطة بنوا ديكتاتوريات متوحشة ذات طابع عسكري. بمعيار التضحيات فكل هؤلاء ضحوا، ولكن هذا لا يعني ابداً أن أهدافهم كانت صحيحة أو إنسانية.
كان رفيقنا الشاب الوسيم الخارج تواً من السجن يحمل بشكل أو آخر هذه الهالة الأسطورية للنبلاء الذين يضحون بحياتهم، كنا نسمع له أكثر مما نناقشه، كيف نجادل من وقف علي حافة الموت شامخا. كانت آراءه حادة كالسكين، كان يذهب دوماً إلى الحد الأقصى، ولا يحب ولا يريد نقاشات في تفريعات وحواري واحتمالات وأوجه مختلفة لأي قرار أو رأي. فكتابات ماركس وانجلز واضحة، وكتابات لينين المؤسس للإشتراكية في روسيا لا تحتاج إلى لف ودوران كما كان يقول لنا. كانت قوة النصوص المقدسة وسيرة لينين وصحابته تدعمه بقوة. سانده ايضاً قدرته على السخرية الجارحة من أي حلول يراها وسط، رغم أنها كما يصرخ أصحابها على "أرضية ماركسية". كان هذا متوائماً مع صخبه وتدفقه بالحياة، لكن متناقضاً مع وجهه الطفولي وطيبة قلبه. الحقيقة أن طريقته "الثورية" كانت مريحة، فالوصول إلى الحد الأقصى لا يحتاج إلى أي جهد عقلي ونفسي، بعكس التحليل والاستنتاج وابداع طرق مبتكرة للوصول إلى الأهداف. الحد الأقصى يمنحك بسهولة تميز واختلاف استثنائي دون جهد، ويمنحك متعة أن تكون راديكالي، (الحق بين، يا ابيض يااسود) يمنحك الإعجاب واحيانا الانبهار في عيون الرفاق والأهم الرفيقات الجميلات.
لم تجمعني بالشاب الوسيم عضوية حزب العمال فقط، كان هناك أصدقاء مشتركين، وهذا قربني منه. كنت احب بيتهم الصغير المرتب والعامر دوماً ولو بأقل القليل من الطعام والشراب رغم أنهم أسرة بسيطة. ما زلت أتذكر وجه والده الطيب واندهش من تقبله وجودنا رغم أعدادنا الكبيرة، ووجود بنات كثيرات حتى وقت متأخر، وصخبنا الذي لا يهدأ. كان هذا البيت الشيوعي الدافئ نموذج لما احلم به أنا ومن ارتبطت بها عاطفياً في ذلك الوقت، بيت يسع لكل الرفاق. 
"النضال مش هز اكتاف يا رفيق"
عندما طرح الحزب الالتحام بالطبقة العاملة كان الشاب الوسيم أول من نفذ، ودعى كل الرفاق أن يفعلوا مثله بدلاً من "النقاشات العقيمة" والنضال غير المجدي مع "برجوازيين صغار" لا أمل منهم. كان يقصد جهود الحزب مع الطلبة والمثقفين. كان بعضنا متململاً من تركيز حزب العمال في الاستيلاء على مقر حزب التجمع في شبرا الخيمة وضد اختراق ومحاولة السيطرة على قصر الثقافة، وضد حتى فصل محو الأمية الذي اسسناه في أحد مراكز الشباب. فالأكثر جذرية وجدوي هو الالتحام بالطبقة العاملة صاحبة المصلحة الأكبر في الإشتراكية. طبقاً للماركسية هي طبقة ثورية بحكم طبيعتها ومصلحتها، هي المؤهلة لأن تكون جسم الثورة الرئيسي، وتجر وراءها الفلاحين والمثقفين وغيرهم.
لذلك قرر الشاب الوسيم الذهاب إلى شبرا الخيمة "ارض المعركة"، لاختراق الطبقة العاملة في هذه القلعة الصناعية الكبيرة. الحقيقة إن حماسه واندفاعه أربك قليلاً بعض القيادات، جعلهم يظهرون "أقل ثورية"، كان يفسد الى حد ما خططهم في العمل السياسي، ولم تنفع كثير منهم "ماركسيته"، فصديقنا الشاب الوسيم كان معه السلاح الحاسم "الطبقة العاملة"، قدس الأقداس في الماركسية، بقرتها المقدسة، التي لا يمكن أن يصمد أي شيوعي أمامها.
ساعدت الشاب الوسيم الثوري في الإلتحاق بمصنع والدي رحمه الله كعامل تحت التدريب، وبعد أن يتمكن من الصنعة، كان الإتفاق أن ينتقل من مصنع إلى آخر لتجنيد العمال. لكنه لسبب أو لآخر كان تعليمه بطيئاً وسوف يستغرق وقتاً ليصبح عامل نسيج محترف. لكن هذا لم يكن مهماً، يكفي أن يكون موجوداً في المصنع حتى لو اقتصر الأمر على أن يكون "مساعد نساج" اي مساعد لعامل نسيج محترف، المهم أن يكون في وسط العمال. كان منتظماً رغم أنه يستغرق أكثر من ساعة ونصف حتى يصل إلى مكان العمل من بيته. كان الحل هو أن استأجر غرفة من أموال والدي لكي يعيش فيها مع الرفيق الذي اشتريت له مقهى صغير في وسط المصانع، وفرشناها بالأساسيات البسيطة.
كان الحماس طاغياً، كنا نشعر بأننا نفعل شيئاً حقيقياً في المكان الصحيح والزمان الصحيح. فنحن "طليعة الطبقة العاملة" والآن نلتحم بها، نحقق السبب الذي وُجدت الماركسية من أجله. كنت فخوراً بالانبهار في عيون الرفاق والرفيقات، وخاصة في عيون من ارتبطت بها. كان يملئنا شعور نحن ال 18 شاب وفتاة أن "جنة الاشتراكية" على مرمى البصر.
لكن الحقيقة أن رفيقنا الشاب الجذري الراديكالي طيب القلب هو الذي كان يحصد القدر الأكبر من اعجاب كثير من الرفيقات. فقد كان "هو" المعيار الذي يقاس عليه أمثالنا الذين هم بالطبع "أقل ثورية وراديكالية" منه.
شيئاً ما حدث، فالرفيق طيب القلب الجذري الثوري الأكثر تشدداً والأكثر صخباً انسحب تدريجياً واختفى من شبرا الخيمة. عرفت بعدها أنه ترك الحزب، لا أعرف على وجه الدقة اسبابه، لكني سمعت أنه غير راض عن الحزب ويعتبره غير ثوري. لكن المفارقة هي أنه التحق بشركة سياحة كبرى، وعرفت أن وظيفته كانت مرافقة السياح القادمين إلى داخل مصر عبر إسرائيل، وفيهم بالطبع إسرائيليين، كان يختفي وراء أنهم من "عرب 48”.
الأمر هنا لا علاقة له برفضي لإسرائيل أو قبولها، لكن هذه القدرة المدهشة على الانتقال من النقيض إلى النقيض . من حق أي إنسان أن يغير أفكاره، لكن من الصعب أن يكون هذا الانتقال بهذه السرعة الفائقة تعبير عن تغيير قناعات، تعبير عن جهد بحث ومعرفة ومخاض انساني. فقد تربينا في حزب العمال الشيوعي على كراهية إسرائيل (كراهية التحريم)، ليس لأنها تحتل ارضاً وتشرد شعباً، لكن أولاً لأنها "صنيعة الرأسمالية العالمية الإمبريالية"، ربما لو كانت “صنيعة الاشتراكية الأممية” التي أسسها ويسيطر عليها الإتحاد السوفييتي لتغير موقفنا. إسرائيل هي الشيطان الأكبر، زرعوها في الشرق الأوسط لتدمير أي إمكانية ل"ثورة اشتراكية". تظاهرنا ضد اسرائيل، و وزعت منشورات وتبرعت بدمائ لنصرة الشعب الفلسطيني. كان لحزب العمال فرع في فلسطين حسبما عرفت اسمه حزب العمال الشيوعي الفلسطيني. فكيف يمكن أن ينتقل بعض الرفاق الجذريين الثوريين الراديكاليين بكل بساطة من النقيض إلى النقيض. فهل "صحيح الماركسية" هو ما تربينا عليه، أم هو الموقف الجديد لرفيقنا من إسرائيل؟ أم أن الإنتقال من الحد الأقصى إلى الحد الأخر الأقصى سهل لأنهما يشبهان في الجوهر بعضهما البعض؟ هل هذا يفسر انتقال يساريين كبار من أرض الشيوعية إلى أرض الإسلام السياسي، من ديكتاتورية اشتراكية إلى ديكتاتورية دينية، من يوتوبيا إلى يوتوبيا.
لقد تربينا على كراهية الغرب الرأسمالي المتوحش، لكن بعضاً من رفاقي أسسوا منظمات حقوقية حصلت على أموال من هذا الغرب. بعضهم عندما قرر الهجرة من مصر "أرض المعركة من أجل الإشتراكية"، لم يذهب إلى كوبا أو الصين أو كوريا الشمالية، ولا إلى أي بلد "فيه ريحة اشتراكية"، لكنهم هاجروا إلى بلاد غربية امبريالية متوحشة يكرهونها. أو هاجر بعضهم إلى بلاد نفطية يمجد فيها رؤسائه في العمل، و"بالمره" يمجد من يحكمونها. من الصعب القول أن أفكارهم تغيرت، فما زالوا "يطنطنون" بأنهم "يساريين شيوعيين جامدين".
مثلهم مثل الناصري الذي قرر الهجرة، بسبب انتصار "ثورة السادات المضادة" التي هدمت الحلم القومي الناصري، فلم يذهب إلى أي بلد فيها "ريحة اشتراكية وقومية عربية"، مثل ليبيا والعراق وسوريا وقتها. لكنه اختار الغرب الذي يكرهه ويتهمه بأنه مدمر "قوميته وعروبته". مثلهم مثل الإسلامي الذي لم يهاجر إلى "مكة" بجوار بيت الله الحرام وقبر سيدي رسول الله، ولا إلى أي بلد فيه "ريحة الإسلام وتطبيق شرع الله" مثل السودان وباكستان وغيرهما. لكنه يعيش في الغرب "الكافر" الذي دمر "الخلافة الإسلامية" ويدمر الإسلام والمسلمين. هؤلاء من أقصى اليمين الديني الى اقصى اليسار الشيوعي يقولون انهم لم يختاروا الغرب كي ينعموا بحريته ورفاهيته (لا سمح الله)، ولكن ليدمروه من الداخل ويقيمون "الدولة الإسلامية" أو "الدولة الإشتراكية" … ويريدون منا تصديقهم، آه والله.
"الدنيا اتشالت واتحطت" أنتجت وما زالت الحكومات الشيوعية والاشتراكية والقومية والإسلامية خراباً لشعوبها وللإنسانية، ومع ذلك من النادر أن يصارحون أنفسهم بأن هناك مشكلة ما في الأساس الأيديولوجي. لكن يصرخون في وجوهنا بأن العيب كان في التطبيق (مش في النظرية). بعض الشيوعيين يقولون أن "الشيوعية" لم تطبق اصلاً (زي التروتسكيين). القومي (بعثي أو ناصري أو غيرهما) يحدثك عن المؤامرات الكونية التي حاربت هذا المشروع العظيم وهي التي دمرته، أي العيب ليس فيه. إسلاميون يصرون على الكذب ويقولون لأنفسهم وللعالم أن "الخلافة الإسلامية" كانت ملائكية، في حين أنها كانت استعمار استيطاني مسلح وبشع مثل كل الإمبراطوريات القديمة.
إنه العمى الإنساني، الذي يجعل الأيديولوجيا أهم من البشر، يجعلها سداً منيعاً تقف بينهم وبين انسانيتهم، وتصبح هي في حد ذاتها "جنة"، هي في حد ذاتها الهدف، يعيشون داخلها، بديلاً عن الواقع الذي يخرق العين. أنهم تعساء يتعيشون على "الطنطنه" بالكلام الفارغ مع جنرالات المقاهي في بلادنا الخربانه والتعيسة. 
"الفقيه الماركسي"
في المسافة بين خروج رفيقي الشاب الوسيم من المعتقل حتى هجرته فيما بعد إلى دولة غربية "رأسمالية متوحشة"، تعلقت به احدى اجمل وارق الرفيقات، وانتهى الأمر بزواج قصير مأزوم. لا أظن أنها كانت الوحيدة التي وقعت في غرامه أو في الإعجاب به، وربما سبب هذا سخط شديد عليه، بل واصطياد أخطاءه المندفعة الكثيرة من جانب من هم مثلي “أقل ثورية" أو"أقل تدينا" بالماركسية . فقد تخصص أحد رفاقنا في الهجوم الدائم عليه "عمال على بطال"، والتسخيف من آراءه في اجتماعات "الخلية" أو خارجها. أحد رفاقي اختار أن يكون تميزه واختلافه داخل الحزب في أن يكون "فقيه ماركسي"، كان أكثرنا قراءة وإلماماً بالماركسية واللينية، وأكثرنا حفظاً وفهماً لهذه الكتب المقدسة ولأحاديث لينين وصحابته، لذلك كان متمكناً في سحق الشاب الثوري الوسيم نظرياً في اجتماعاتنا.
هذا الفقيه الماركسي كانت أحد مشاكله الكبيرة هي أنه يعرف أنه لن يكون فناناً أو مبدعاً مميزاً، وقد اعترف لي وهو يبكي بحرقة أنه متأكد أنه محدود الموهبة، أو معدوم الموهبة، وأن كل ما يفعله هو نوع من "المعافره والعند" لن يجني من ورائها شيئاً. الحقيقة أنه كان قاسياً على نفسه، لكن ربما هذا أحد الأسباب الهامة التي دفعته للتميز ك"فقيه ماركسي".
كان خلاف رفيقي الفقيه الماركسي مع الشاب الوسيم لم يكن حركياً أو فكرياً، لكن لأن خطف منه حبيبته وتزوجها، فقد كان الأكثر جاذبية بحضوره المتدفق بالحياة، وكان الأكثر ثورية وجذرية. وكان رفيقنا المسكين يعتبر نفسه "شاب حليوه" و"فقيه ماركسي جامد" لكنه انهزم في هذه المنافسة الضارية.
للأسف لم يستطع رفيقي استرداد حبيبته حتى بعد طلاقها من الشاب الثوري الوسيم، ولا حتى بعد فشلها المتسارع في عدة علاقات مرتبكة، واختتمت مسيرتها الحزينة بزواج تقليدي بائس. عاش المسكين بلوعتها ولم يتخلص من طيفها ابداً. عندما حانت الفرصة لأن يستعيدها وتستعيده، حدث ما هو اغرب من الخيال، لم يتزوجها، رغم أنني أظن أنها كانت تريد. ربما لأنه في قرارة نفسه لا يريد أكثر من لملمة جرح قديم وتطييبه.
لم تكن هذه هي الحالة الوحيدة المضطربة، بالصدفه كانت هناك حالات مشابهة، فقد طلبت الطلاق من رفيقي بإلحاح(مكنش في خلع وقتها)، بعدما عانت معه من فقر مؤلم وفشل في حياتها العملية. ما زلت أذكر الليلة السوداء التي قالت لرفيقي بتشفي وتعالى: "تفتكر ان فلان وفلان ممكن ييجوا يزورونا في بيتنا ده". كانت تشير إلى نجوم كبار في مصر تحلم بالعمل معهم، وتشير الى بيتهم الكون من غرفتين صغيرتين لا تدخلهما الشمس في حي عشوائي. الحقيقة أنها كانت تنتقم مما عانته في "مظاهرة الشيوعية" التي انحشرت فيها، وأدت إلى ضياع سنين من عمرها في اللاشيء. اختارت زواجاً تقليدياً من المجال الذي تحلم بالعمل فيه. عادت آمنة إلى ما تصورت أنه الخلاص. كان زوجاً يقف على أعتاب النقيض من تجربتها المريرة، لكنها للأسف لم يحقق لها أي شيء، لقد فشلت مجدداً.
بعد سنوات ألمحت كثيراً إلى حبيبها "الشيوعي القديم" برغبتها في استعادته. لكن رفيقي الذي كان قد حقق بعض النجاحات الحياتية اكتفي بترميم كرامته المجروحة بعد أن رأها ذليلة ومكسورة .. المفارقة أنه قاطعها نهائياً، وقاطع كل ما من الممكن أن يجمعها به ولو بالصدفة. كان يبحث عن انتصار ساحق عليها بعد لفظته وقد ناله.
الحقيقة إن الشاب الوسيم الثوري الجذري كان العنوان الأبرز الارتباك والفوضى في معظم العلاقات سواءً انتهت بزواج أم لا. لم يكن السبب اخلاقياً، ولا لأن الرفاق وأنا منهم أشرار، ولكن لأن معيار الإختيار الأول كانت فيه مشكلة، لذلك انهارت كثير من العلاقات، وبعضها كان انهياراً دموياً فضائحياً. ربما السبب هو أن كثيراً منا اختار ونحن في "عز" المظاهرة أو "المعركة" من أجل "الإشتراكية"، وتدحرجرنا الي فخ أن الإختيار الناجح يعتمد على " شوية اعجاب" وكثير من "التدين الثوري الماركسي"، يكفي لإقامة حياة طبيعية، فكان الاختيار غالباً يذهب إلى الأعلى صوتاً والأكثر "جذرية"، “المتدين الماركسي”. أو يذهب إلى قشرة "التدين الماركسي" والتي ما أن انهارت، حتى انهارت هذه العلاقات.
بالطبع هناك من نجى من هذا الإرتباك وهذه الفوضى، بعضهم اختار من خارج دائرة "المظاهرة الشيوعية"، فبنى اختياراته على أسس مختلفة. بعض العلاقات الأخرى صمدت واستمرت ونجحت، ربما لقدرة أصحابها على تخطي "فخ التدين الماركسي"، فبعد أن تزحزحت أو زالت هذه القشرة استطاعوا بشكل أو آخر التعايش الأليف بين كل ما هو حقيقي بداخلهم.
انتهت "المظاهرة الإشتراكية"، حيث لا يمكنك أن ترى ذاتك وترى تحت اقدامك، تتوه في هذا الصخب العقائدي الطوباوي، تنزلق الى كل ما هو ضدك، لا يمكنك أن تقف وتتأم وتتساءل : لماذا انت هنا والى اين تريد أن تصل، هل هذا هو الطريق الصحيح، من انت وماذا تريد اصلاً من هذه "المظاهرة" ومن هذه الحياة. بعد أن انتهى كل شئ عدت وعاد كثير من الرفاق والرفيقات إلى قواعدهم غير سالمين، كنا مجروحين ومشوهين إلى حد ما. عدنا إلى سيرتنا الأولى مع "تاتش يساري ماركسي" نتفاخر به على المقاهي مع تافهين من جنرالات قدامى متقاعدين مثلنا، أو "نتمنظر بيه" على جهله يقعون لسوء حظهم تحت يدنا.
عدنا إلى ما كنا عليه تقريباً بدون طلاء، وبكثير من الألم. من كان يحتقر المرأة عاد آمناً إلى احتقارها دون ألم ودون فضيحة التناقض مع الماركسية. فواحد من الرفاق "الفقهاء" في الماركسية قال لي بوضوح بعد انتهاء "مظاهرة الإشتراكية الصاخبة" بسنوات، أن الطبيعة هي التي اختارت أن تكون وظيفة المرأة إشباع رغبة زوجها وإنجاب وتربية الأولاد، فلا دور آخر لها في الحياة. لذلك فهي بحكم تكوينها ضيقة الأفق و .. و.. و.. وأضاف بتحذير أن أي محاولة للتناقض مع هذه "الطبيعة" يؤدي إلى كوارث في حياتها وحياة زوجها.
من كانت تحلم ب"سي السيد" غادرت وبحثت عن أسوأ "سي السيد" في مصر كي تتزوجه وتستمتع بقمعه لها. فقد ذهب "الطلاء التقدمي" وارتاحت إلى الحياة في "ظل وحماية رجل دكر" ، وهي "الضعيفة".
هناك رفيقة تحولت إلى النقيض، فقد استراحت في أرض "الإسلام المتشدد"، وتدريجياً زاد تشددها واقتربت اكثر من "السلفيين". هناك أخرى غادرت مجروحة بسبب خسة ووضاعة أحد القيادات، اختفت تماماًِ وسمعت انها تزوجت زواجاً تقليدياً من رجل ثري و "مبسوطه" في بلدتها البعيدة. هناك أخرى لم تفقد توازنها ولا إنسانيتها، كانت تحافظ عليها بصعوبة أثناء "مظاهرة الإشتراكية". رغم الجروح والآلام استعادت عافيتها الإبداعية وأصبحت من مشاهير الفن والثقافة في مصر.
يمكنك القول أن من كان طيباً عاد إلى طيبته الأولى، ومن كان "وسخ" في الحقيقة اصبح "اوسخ" مما كان عليه.

No comments:

Post a Comment